تستغرق قراءة المقال: 10 دقائق
كانت دمشقُ التي هجرتها بسبب الحربِ، مفعمةً بالحياة ومتناغمة، حتى أنه يكاد من الصعبِ أن أذكُرَ ما كان أكبر همومي عندما كنت أسكن في حواريها وأشرب من مياهها وأعيش على هوائها، لكن وكما تقول نظرية ابن خلدون الشهيرة والعظيمة، لكل شيءٍ موجود على .الكرة الأرضية بداية ونهاية، لكلٍ موعدٌ مع الولادة والنمو وموعدٌ مع الموت والفناءِ
جاء موعد ولادتي في اواخر الثمانينيات من القرن الماضي في إحدى حواري دمشق النظيفة والجميلة والراقية، ولدت لأبٍ وأمٍ مسلمين، لحارةٍ ينادي فيها الشيخ للصلاة خمسُ مرات في اليوم، يجاورها كنيسةً تنادي للصلاة أجراسها مرة كل يوم. كبرت في مدارس الرهبان في حواري باب توما والقصاع ودمشق القديمة، علمت حينها أن لدي أصدقاء مسلمون أحضَرُ وإياهم صفوف الديانة الإسلامية، وأصدقاء مسيحيون ينفصلون عنا في صفوفهم، ولم يكن يوماً هذا الفرق عائقاً أو مشكلةً أو حتى عاملاً مميزاً، كنا نتحلى بنفس الصفات والعادات والتقاليد، ونتمتع بنفس الحقوق والواجبات في المدرسة.
كان لي موعد آخر في اوائل الألفية الجديدة مع نادٍ صيفي لإحدى صديقات أمي والتي كان لها فضلٌ في “نضوجي المتزن نسبياً” في مرحلة عمريةٍ “المراهقة” تكاد تكون الأصعب على الإنسان حيث يتحدد فيها الميول والمبادئ. توسعت دائرة معارفي في هذا النادي الصيفي المليء بالنشاطات الرياضية والفنية والإبداعية، وبالنشاطات الإنسانية والتطوعية، وبكل صدق وصراحة، لم يخطر ببالي ولو لمرةٍ واحدة أن أسال أحداً منهم عن انتمائه الديني، حتى أنني لم أكن أعرف حينها أن هناك أطيافاً كثيرة تفرق أبناء الدين الواحد.
ولعل أهم محطات حياتي كانت موعد لقائي مع أطفالٍ من دار اللقطاء الذي كان يدعى “دار زيد بن حارثة”، دخلت في هذه المرحلة بمحاكاة عقلية صعبة وبت أشرد بالتفكير.. عن الوضع المعيشي والاجتماعي والإنساني الذي سيترعرون عليه أطفال هذا الدار. هل الحظ يفرق بيني وبين أطفال الدار؟ لماذا تركوهم آبائهم على أبواب المياتم والجوامع والكنائس؟ الوعي الثقافي ربما؟ القدرة المادية؟ لا ادري. لكن الأهم أنني تعلمت أنه مهما كان الفرق بيني وبين الآخر يجب أن أتعامل معه على أنه إنسان بغض النظر عن بيئته وظروفه، وإذا كان القدر قد جار عليه فعلينا ألا نكون والقدر عليه، فنحن بنهاية المطاف نتقاسم وإياهم الحقوق والواجبات، وسيكونون جزءاً لا يتجزء من نجاحات المجتمع وفشله فيجب أن نساعد بعضنا البعض قدر الإمكان لنعيش بأمان وسلام. تعلمت جل الدروس في هذه المحطة وقد نشأت على حب العطاء ومساعدة الآخرين والاستمتاع بهما.
كان موعد الغزو الاسرائيلي على لبنان في تموز 2006 فرصةً أخرى وشرف لي لخدمة لاجئي الحرب طيلة 33 يوماً. تعرفت حينها على أناس مختلفين، أتوا من الجنوب اللبناني، وحينها فقط أدركت أنه هناك أطياف تقسم الأديان وأن من يحارب الإسرائيليين آنذاك هو من طائفة لا انتمي لها!! لكني حقيقةً لم أفهم ما هو “الفرق” بيننا ولم يهمني أصلاً أن أفهم هذا الفرق وكنا كلنا كسوريين ندعوا له بالنصر ونحمل صوره ونثني على خطاه.
ولا يقل موعد البيعة في سوريا عام 2007 أهمية عن كل المواعيد التي سبقت، فقد اكتشفت حينها السبب الذي كان يمنع المجتمع المحيط بي من ممارسة حقه الانتخابي، ويعود السبب الأول لهزلية الواقع الانتخابي في البلاد والسبب الثاني ربما طائفياً. ولم أقبل حينها السبب الثاني، لأني كنت من مناصري وحدة الإنسان بغض النظر عن الطبقة والعائلة والدين والطائفة والخ..
في الجامعة، التقيت بأصدقاء من كافة المحافظات السورية، وبدأت انفتح على عالم جديد خارج عالم دمشق، عالم فيه أناس مكافحون ومحترمون ينهالون على أنفسهم بالدراسة والعمل وبناء المستقبل لإثبات الذات، لم أرى يوماً ما كان يميزني عنهم كوني من الشام “العاصمة” بل كانوا هم من يرون الفرق عند اللقاء بي، ولم أكن أقبل بتمييزي لمجرد أنني بنت دمشق، إذ أنهم ينعتون أبناء الشام بالغرور والسلطة والمال. لكني بصراحة لم أحاول أن أغيّر هذه الصورة فأنا لا أستعير من أصولي مهما يكن. أنا بنت دمشق فعلاً.. أتحدث العربية والإنجليزية والفرنسية بطلاقة فإذا كانت لغاتي مشكلتهم .. فلتكن! وإذا كان سفري لبعض العواصم غروراً .. فليكن! وإذا كان اختلاطي بالشبان فجراً .. فليكن!
لكن لعل أهم المواعيد التي قلبت حياتي رأساً على عقب ورسمت الحزن في أيامي، كان موعد الربيع العربي الذي زار سوريا في الربع الأول من عام 2011 وما نتج عن هذا الربيع فيما بعد من دمار معنوي ومادي وأزمةً شلّت العقول وخنقت الشباب وسرقت الأحلام والآمال من عيون الشباب والشيّاب.
هجرت دمشق في الشهر الأخير من 2012 حاملةً ذكرياتي، باحثة عن الأمان، علمت حينها أن موعدي مع الغربة قد حان، ويا له من موعد قاسٍ، طريقه مليء بالرمال الصفراء وأشواك الصبار وأوراقُ النخلٍ الثقيلة. ربما كانت خيبة الأمل الأولى اضطراري الابتعاد عن أمي وأبي إذ كان هدفي فتح المجال لهم الخروج من أرضٍ بات يسيطر عليها الدم والخوف لكني سرعان ما اكتشفت أنهم مؤمنين بالمثل الدمشقي القديم “من خرج من داره قل مقداره” واحترمت رغبتهم.
وعندما بدأت البحث عن سبب الأمان الذي وجدته في البلد الذي لجأت إليه فكان الجواب هو الحب. إنه ببساطة بلدٌ أحبه أهله وأعطوه فأعطاهم. وهنا جاء موعدي مع ما يسمونه “معترك الحياة” تعرفت على أناس من كل بلاد وأديان العالم لا أتشارك معهم سوى الإنسانية، كانوا يمسحون دموعي ويمسكون بيدي في كل مرة أفقد صوابي من شدة الشوق لمن منحاني الحياة وعلماني الحب.
في إحدى تلك الليالي الخائبة، آمن باندفاعي وحماسي، أحدهم، فأعطاني فرصة الانطلاق في عملٍ كسرت فيه إلى الأبد ذلك الصندوق الذي أطرتني به دروس القومية، وعلمت حينها أن ما يجمعني مع البشر الموجودين على سطح الكرة الأرضية أجمع هو أقوى وأسهل مما يجمعني مع أهل مدينتي إذا ما رضعوا من العز والرضى ما يكفي ومن الحب والإخلاص ما يُعدي. إذ بات هدفي البحث عن من يشاركني الحب والإنسانية فقط. وها أنا اليوم اعتز بصداقتي لفتاة إماراتية وأخرى بريطانية وفتاتين حمصيتين وفتيات حلبيات ولبنانيات وصديق لاذقاني وآخر ايطالي وأرمني وأمريكي. أما أصدقائي وأقربائي الدمشقيين فقد علموني دروساً نقشت من ذهب في شرايني إذ ثَبتَ لي فعلاً أن أكثر الناس شبهاً لي ولهويتي قد لا يجمعني بهم شيء حتى اللغة.
في أيامي القلية المتبقية لي من العشرينيات، قررت الارتباط بشريك يمتلك من صفات الرجولة والنبالة والحداثة ما يكفي لإقناعي بذلك “القفص الذهبي” ولعل أكثر ما يدفع كلينا لنكمل المشوار سويةً هو عالميتنا، فعندما هجرنا وطننا، علمنا أن بلاد العالم أصبحت أوطاننا فعلاً وليس كلاماً فقط، وعندما استقرينا في البلد الذي أعطى أهله بقدر ما أعطوه، علمنا أن الحياة أكبر من دمشق وطرطوس، وأن الإنسان فعلاً بعمله وخلقه وليس بدينه وهويته وجنسيته.
أحن إلى دمشق وأحزن لحزنها وألمها، لكني أحزن لحزن الجميع وأفرح لفرح الجميع. فمن شبّ على شيء شاب عليه.
2018 تشرين الثاني
سارة رمضان